مشروع إم كيه ألترا: وهم أمريكا للسيطرة على العقول
رئيس المخابرات آلان دوليس |
من الأفلام للموسيقى و من الأسلحة للإقتصاد، الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر اليوم و حتى تاريخيا أحد أكثر الدول تأثيرا في العالم إن لم نقل أكثرها فقد استطاعت هذه الدولة و رغم تاريخها القصير في فرض سيطرتها على صناع القرار في العالم وتحويل دفة القيادة لها في كل مرة بل و محاربة كل من يحاول أن يصرف الانتباه عنها بطرق غريبة و ملتوية قد نراها نحن خاطئة و غير أخلاقية لكن الطبقة الحاكمة الأمريكية تراها على أنها "إستثنائية أمريكية"، و في هذه السطور سنتطرق لأحد أغرب الطرق التي انتهجتها الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الباردة في محاولة منها للتفوق على الإتحاد السوفياتي ... مشروع إم كيه ألترا .
البداية:
في شهر أبريل من العام 1953، جمع مدير الإستخبارات المركزية آلان دوليس عددا من القياديين في الجهاز و ألقى على مسامعهم خطابا أبرز فيه خوفه مما أطلق عليه "غسيل الدماغ الشيوعي" الذي تعرض له الجنود الأمريكيون خلال الحرب الكورية التي كانت في آخر مراحلها، و قد كان يحمل بين يديه طيلة فترة حديثة نسخة من جريدة محلية عنونت أحد مقالاتها بعبارة "غسيل الدماغ ضد علم النفس الأمريكي" في إشارة لقوة و عنف التكتيكات الشيوعية مقارنة بالأمريكية.
كونه أول مدني يتولى منصب رئيس الإستخبارات و سعيا منه لفرض كلمته قرر دوليس و بعد ثلاثة أيام فقط من خطابه إعطاء الضوء الأخضر لمشروع أم كيه ألترا، وهو برنامج سري للغاية لوكالة المخابرات المركزية من أجل "الاستخدام الخفي للمواد البيولوجية والكيميائية" لغرض التحكم في العقول و تحويل الجواسيس الروس المقبوض عليهم "لعملاء نائمين" يعملون لصالح أمريكا.
تركزت تجارب "التحكم في العقل" إم كيه ألترا بشكل عام على تعديل السلوك عن طريق العلاج بالصدمات الكهربائية والتنويم المغناطيسي وأجهزة كشف الكذب والإشعاع ومجموعة متنوعة من الأدوية والسموم والمواد الكيميائية. اعتمدت هذه التجارب على مجموعة من الأشخاص الذين تم الإختبار على بعضهم بالتطوع الحر، بينما تطوع آخرون تحت الإكراه، والبعض الآخر لم يكن لديه أي فكرة عن مشاركته في برنامج بحث دفاعي شامل.
التجارب مست الشرائح الأضعف في المجتمع حيث أشارت التقارير إلى أن الوكالة قد أجرت اختباراتها على الأولاد المعاقين عقليًا في المدارس الحكومية و الجنود الأمريكيين و كذا المرضى النفسيين و المجانين المحبوسين في المستشفيات الحكومية لكن وكالة المخابرات رأت في السجناء فريسة مفضلة لها و ذلك لأن اليأس كان يدفعهم لإعطاء موافقتهم مقابل وقت إضافي للترفيه أو تخفيف العقوبات.
وايتي بولجر وهو زعيم سابق لأحد عصابات الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة الأمريكية تحدث عن تجربته كموضوع اختبار في المشروع حيث قال بولجر عن اختبارات عام 1957 في سجن أتلانتا حيث كان يقضي بعض الوقت: "ثمانية مدانين في حالة من الذعر والبارانويا. فقدان الشهية التام. هلاوس، شكل الغرفة يتغير . ساعات من جنون العظمة والشعور بالعنف. لقد مررنا بفترات مروعة من الكوابيس و رأينا حتى الدماء تتساقط من الجدران. الرجال يتحولون إلى هياكل عظمية أمامي. رأيت كاميرا تتغير لتتحول لرأس كلب. شعرت كأنني أصاب بالجنون ".
صورة بولجر. |
بولجر صرح أنه قد تم حقنه بـ LSD أو ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك وقد اعتبرته وكالة المخابرات أحد العوامل الرئيسية لنجاح المشروع حيث افترضت أنه يمكن أن يكون مفيدًا في الاستجوابات، الإهتمام بال أل أس دي بدأ في أواخر الأربعينيات بعدما وصلت للحكومة الأمريكية تقارير تفيد بأن الاتحاد السوفياتي قد بدأ جهودا مكثفة لإنتاج عقار إل إس دي، وأن السوفيات حاولوا شراء إمدادات العالم من المادة الكيميائية. وصف أحد ضباط وكالة المخابرات المركزية الوكالة بأنها "مرعوبة حرفياً" من برنامج أل أس دي السوفياتي ، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى نقص المعرفة حول العقار في الولايات المتحدة و مع ظهور مشروع أم كيه ألترا ، تحول إهتمام الحكومة الأمريكية بالعقار من التوجه الدفاعي إلى التوجه الهجومي حيث أرادت الآن الإستفادة منه بدلا من معرفة أعراضه و قد لاحظ مسؤولو وكالة المخابرات المركزية بعد عدة تجارب على العقار أنه يمكن أن يكون مفيدًا في الحصول على السيطرة على البشر و التحكم بهم سواء كانوا راغبين أم لا و قد تصورت وكالة المخابرات المركزية أنها بإمكانها جعل الأشخاص يحاربون كراهية في حالة هجوم سوفياتي كما يمكنهم أيضا توظيف الشخص لإغتيال أحد القادة أو الشخصيات السياسية البارزة.
طبعا الوصول لهذه النتائج حول عقار إل إس دي لم يأت عبثا إذ قامت الوكالة عمومًا بحقن الأفراد بالعقار ، وإيجاد متطوعين متى أمكنهم ذلك ، وأحيانًا كانوا ينزلون الدواء في مشروبات زملائهم من الموظفين دون علمهم. بمرور الوقت ، نمت تجارب أل إس دي هذه بشكل متزايد و ربما كانت أشهر هذه المشاريع هي عملية ذروة منتصف الليل.
عملية ذروة منتصف الليل:
عام 1955 قامت وكالة المخابرات المركزية بالتعاون مع العميل الخاص جورج وايت هانتر من شعبة مكافحة المخدرات بتحضير غرفة نوم خاصة بديكور محدد تتوسطها طاولة مملوءة بأل أس دي مسحوق يشبه شكله شكل الكوكايين، الغرفة كانت أيضا مجهزة بعدد من أجهزة التنصت و مرآة بوجهين بغرض رؤية تأثير المخدر على السياسيين الفاسدين، جورج كان قد دفع مسبقا لعدد من فتيات الليل يستدرجوا السياسيين لتلك الغرفة أين يتم تخديرهم أولا بالعقار الموضوع أمامهم قبل أن تبدأ الفتيات في طرح عدد من الأسئلة لرؤية مدى استجابة الطرف الآخر و الغريب في الأمر أن وايت كانت يتابع العملية كلها من خلف المرآة و يدون النتائج بكل برود حيث قيل أنه كان يشاهد كل شيئ حتى الجنس و في يده كأس مارتيني، لكن رغم كل التعب الذي تكبده إلا أنه لم يصل لنتيجة تذكر و كانت خطته لحد كبير مجرد مضيعة للوقت و المال .
العميل الخاص وايت. |
فشل المشروع:
وكالة المخابرات المركزية وجدت نفسها مرتاحة و قررت مواصلة عملياتها اللاأخلاقية على المواطنين حيث بدأت في حقن الناس في الشوارع بالمخدر دون علمهم و وضعه لهم في الماء و قد وصل بهم الأمر حتى لقتل لاعب التنس هاورد بلاور الذي دخل أحد مصحات مدينة نيويورك للعلاج بشأن الإكتئاب لكنه للأسف راح ضحية أحد التجارب الطائشة حيث تم حقن كيس السيروم الخاص به بعقار أل سي دي ممزوج بمواد أخرى مما أدى لوفاته.
كل هذه الأحداث دفعت بالصحافي سيمور هيرش المعروف بـ تحقيقاته لصالح جريدة النيويورك تايمز بالتحرك و ربط الخيوط و قد نجح في ذلك بشكل ساحق برز جليا في مقاله الذي نشر عام 1974 و الذي فضح فيه بشكل مفصل المشروع و حيثياته و كل التفاصيل اللاأخلاقية فيه.
الحكومة الأمريكية اضطرت لإيقاف المشروع.
هذا المقال دفع بالسيناتور إدوارد كينيدي لإيقاف المشروع نهائيا و فتح تحقيق في الموضوع، تم استجواب عدد من عملاء الوكالة و عقد عدة جلسات إستماع لكن فضيحة واترغيت³ حالت دون الوصول لنتيجة حيث تمكنت الوكالة في خضم كل تلك الفوضى من حرق و طمس معظم الأدلة حول المشروع، تمت رغم ذلك إقالة مدير المخابرات المسؤول عن مشروع ام كي الترا الذي اعتبر فشلا ذريعا و وصمة عار في جبين وكالة المخابرات المركزية حتى يومنا هذا.
- الاستثنائية الأمريكية: فكرة أو اعتقاد مفاده أن الولايات المتحدة الأمريكية مختلفة عن الدول الأخرى و أن أي عمل تقوم به بغرض الوصول للتطور و السلطة سواء كان أخلاقيا أم لا هو مؤيد من قبل الرب .
- العملاء النائمون: مصطلح يطلق على الجواسيس الذين يتم تجنيدهم من قبل الدول التي كانوا يعملون ضدها و عادة يكون هذا التجنيد بالإكراه عن طريق تفعيلها بكلمات محددة مرسخة في عقلهم الباطن.
- فضيحة ووترغيت: فضيحة تورط فيها الرئيس ريتشارد نيكسون عام عام 1972 حيث ثبت أنه كان يتجسس على خصمه الديمقراطي في الإنتخابات جورج ماكغفرن و الذي كان يتخذ من مبنى ووترغيت مقرا له.
تعليقات
إرسال تعليق