قضية الرضيع المجمد في الفريزر: القصة الكاملة
تُعد قضية العثور على جثة طفل رضيع مجمدة داخل حقيبة بلاستيكية في فريزر شقة بكوريا الجنوبية واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل والغموض في العقد الأخير. لم تكن مجرد حادثة محلية، بل تحولت إلى أزمة دبلوماسية بين كوريا الجنوبية وفرنسا، وأعادت فتح النقاش حول قضايا الطفولة، الإهمال الأسري، والاضطرابات النفسية المرتبطة بإنكار الحمل.
المقدمة
في صيف عام 2002، وبينما كان الزوجان الفرنسيان جون وفيرونيك كوريل يعيشان حياة هادئة نسبيًا في كوريا الجنوبية، وقع حدث قلب حياتهما رأسًا على عقب. أثناء تحقيقات اعتيادية في شقة مستأجرة بمدينة بوسان، اكتشفت الشرطة المحلية حقيبة بلاستيكية زرقاء داخل الفريزر. وعندما فُتحت الحقيبة، كانت الصدمة: جثة طفل حديث الولادة ملفوفة ومجمدة لسنوات.
من هنا بدأت قصة طويلة ومعقدة، امتدت على أكثر من عشرين عامًا، وتداخلت فيها عناصر إنسانية ونفسية وقانونية ودبلوماسية. فما الذي حدث بالفعل؟ وكيف تحولت حياة عائلة فرنسية عادية إلى كابوس عالمي؟ هذا ما سنعرفه بالتفصيل في هذا التحقيق المطول.
الفصل الأول: حياة جون وفيرونيك قبل الكارثة
لفهم أبعاد القضية، علينا أن نعود خطوة إلى الوراء، إلى حياة الزوجين قبل أن يطغى الغموض على مصيرهما. جون، رجل بسيط من أصول متوسطة في فرنسا، كان يعمل في مجال الصيانة التقنية، معروفًا بهدوئه وانضباطه. أما فيرونيك، فهي امرأة عاشت طفولة مضطربة شهدت مشكلات أسرية وصدمات عاطفية، لكنها عُرفت بين أصدقائها بقدرتها على التكيف والابتسام رغم الصعاب.
تزوج الاثنان في تسعينيات القرن الماضي، وقررا خوض مغامرة خارج فرنسا بحثًا عن فرص عمل أفضل وتجربة ثقافية مختلفة. قادهما الحظ إلى كوريا الجنوبية، حيث أقاما في مدينة بوسان الساحلية. هناك عملا في وظائف متواضعة؛ جون في صيانة الأجهزة، وفيرونيك كمساعدة في متجر محلي.
كانت حياتهما بسيطة، لكن لم تخلُ من الضغوط. العزلة الثقافية، صعوبة اللغة، والضغوط الاقتصادية كلها عوامل جعلت الحياة أكثر تعقيدًا. ومع ذلك، بدت علاقتهما الزوجية مستقرة إلى حد كبير. لكن خلف هذه الصورة الهادئة، كانت هناك أسرار مظلمة تقترب شيئًا فشيئًا من الانفجار.
فيرونيك وصدمات الطفولة
لفهم سلوك فيرونيك لاحقًا، لا بد من العودة إلى طفولتها. فقد نشأت في بيئة مضطربة حيث العنف الأسري لم يكن أمرًا غريبًا. كانت علاقتها بوالديها معقدة، ولم تحصل على الدعم النفسي الكافي. بعض التقارير اللاحقة كشفت أنها عانت من ظاهرة إنكار الحمل أكثر من مرة، أي أنها لم تكن تدرك أو تعترف بحملها حتى لحظة الولادة.
هذه الخلفية النفسية المليئة بالندوب تركت أثرًا عميقًا على حياتها كزوجة وأم. ومع انتقالها إلى بلد أجنبي بعيد عن الدوائر العائلية الداعمة، أصبحت في مواجهة مباشرة مع نفسها ومع ضغوط لم تستطع السيطرة عليها.
جون: الزوج الغافل أم المتغاضي؟
أما جون، فقد صُوّر في وسائل الإعلام على أنه رجل طيب لكنه ضعيف الشخصية أمام زوجته. البعض وصفه بالغافل الذي لم يلحظ شيئًا غير طبيعي في سلوك زوجته، بينما رآه آخرون متواطئًا بالصمت أو بالتغاضي. الحقيقة على الأرجح تقع في مكان ما بين هذين التوصيفين. لكن المؤكد أن الأحداث التي تلت ستضعه في دائرة الضوء بقدر زوجته وربما أكثر.
الفصل الثاني: الكيس الأزرق واكتشاف الصدمة
في إحدى ليالي عام 2002، وبينما كان جون عائدًا إلى شقته في بوسان بعد يوم عمل طويل، قرر أن يتناول بعض الطعام من الفريزر. هناك، وسط الأكياس المعتادة، لفت نظره كيس بلاستيكي أزرق لم يره من قبل. كان الكيس مربوطًا بطريقة غريبة، وكأن شخصًا ما أراد إخفاء ما بداخله بعناية.
بدافع الفضول، أخرج جون الكيس وفتحه. للحظة تجمد الدم في عروقه: أمامه كانت جثة طفل رضيع متجمدة. لم يصدق ما يراه. بدأ يصرخ بهستيريا، واتصل فورًا بالشرطة المحلية. خلال دقائق، حضرت الشرطة إلى الشقة وصادرت الكيس الأزرق.
في البداية، تعاملت السلطات مع الأمر كحادث غامض قد يكون مرتبطًا بجريمة محلية. لكن الصدمة الكبرى جاءت بعد إجراء تحليل الحمض النووي (DNA). فقد أثبتت التحاليل أن جون هو الأب البيولوجي لذلك الرضيع.
التحقيقات الأولية
السلطات الكورية استجوبت جون على الفور. لكنه أنكر أي علم بالرضيع، مؤكدًا أنه لم يكن يعرف بوجوده على الإطلاق. بدا الرجل مصدومًا ومذعورًا مثل أي شخص عادي قد يجد نفسه فجأة متهمًا بجريمة لم يتخيلها.
لاحقًا، اكتشف المحققون شعرة طويلة داخل الفريزر. وبعد تحليلها، تبيّن أنها تعود لزوجته فيرونيك. ومع هذا الاكتشاف، تحول مسار القضية بشكل جذري: لم يعد جون وحده موضع الشك، بل أصبحت زوجته أيضًا متهمة محتملة.
رد فعل فيرونيك
عندما واجهتها الشرطة بالأدلة، دخلت في حالة إنكار. لكنها بعد ضغوط شديدة، انهارت واعترفت بما لم يكن أحد يتوقعه: الرضيع في الفريزر كان ابنها. بل أكثر من ذلك، اعترفت بأنها أنجبت أكثر من طفل خلال سنوات زواجها من جون، وأن بعض هؤلاء الأطفال لقوا حتفهم فور الولادة أو بعدها بفترة قصيرة.
اعترفت فيرونيك بقتلها لطفلين حديثي الولادة في كوريا الجنوبية بين عامي 2002 و2003، بالإضافة إلى طفل آخر عام 1999 في فرنسا. كانت تضعهم في الفريزر بعد ولادتهم، محاولةً طمس أي أثر لوجودهم.
الفصل الثالث: أزمة دبلوماسية بين فرنسا وكوريا
لم تكن القضية مجرد جريمة أسرية. عندما نشرت وسائل الإعلام الكورية تفاصيل الاكتشاف، أثارت القضية جدلًا واسعًا. وسرعان ما تحولت إلى أزمة دبلوماسية. فقد شكك الجانب الفرنسي في نزاهة التحقيقات الكورية، معتبرًا أنها ربما استهدفت تشويه سمعة مواطنيه أو ممارسة ضغوط سياسية.
الجانب الكوري من جهته أصر على أن الأدلة واضحة ولا تقبل التشكيك. ولإثبات الشفافية، طلبت كوريا الجنوبية من فرنسا إرسال خبراء لإجراء اختبارات الحمض النووي بشكل مستقل. استجابت فرنسا للطلب، وأرسلت فريقًا من المحققين والأطباء الشرعيين. وجاءت النتائج صادمة: التحاليل الفرنسية أكدت صحة ما توصلت إليه السلطات الكورية. الرضّع بالفعل أبناء جون وفيرونيك.
هنا لم يعد أمام فرنسا مجال للإنكار. اضطرت السلطات الفرنسية إلى التعاون مع نظيرتها الكورية، وتحولت القضية إلى حديث الصحافة العالمية.
الإعلام والجمهور
الصحف الكورية نشرت صور الزوجين الفرنسيين على الصفحات الأولى، ووصفت القضية بأنها "جريمة القرن". أما في فرنسا، فقد انقسم الرأي العام: بعضهم تعاطف مع جون واعتبره ضحية بريئة لخيانة زوجية مروعة، بينما رأى آخرون أنه لا يمكن أن يكون غافلًا تمامًا عن جرائم زوجته.
الفصل الرابع: المحاكمة واعترافات فيرونيك
بدأت المحاكمة وسط اهتمام إعلامي عالمي. في قاعة المحكمة، أنكر جون مرارًا معرفته بوجود الأطفال، مصرًا على أنه لم يكن على علم بحمل زوجته ولا بولاداتها. بدا متماسكًا، متمسكًا بدوره كرجل مخدوع أكثر من كونه شريكًا في جريمة.
لكن شهادة فيرونيك قلبت كل شيء. فاجأت الجميع بقولها: نعم، هؤلاء أطفالي. أنجبتهم في سرية، وقتلتهم فور ولادتهم. فعلت ذلك وحدي ومن دون علم زوجي.
لم يقتصر اعترافها على الطفلين في كوريا. بل صرحت بأنها أنجبت طفلًا ثالثًا في فرنسا عام 1999، وأنها تخلصت منه أيضًا بطريقة وحشية. كان اعترافًا صادمًا لا يمكن للعقل تصوره.
المحكمة قررت استدعاء خمسة أطباء نفسيين لتقييم حالتها. بعد أشهر من الفحص، خلص الخبراء إلى أن فيرونيك تعاني من اضطراب نادر يُسمى إنكار الحمل. هذا الاضطراب يجعل المرأة لا تدرك أنها حامل حتى لحظة الولادة، فلا تظهر عليها علامات الحمل التقليدية، ولا تشعر بأعراضه. لكن في حالة فيرونيك، اقترن الاضطراب بنزعة عدوانية تجاه أطفالها، ما أدى إلى سلسلة جرائم مأساوية.
الفصل الخامس: الحكم والعقوبات
بعد جلسات طويلة استمرت شهورًا، استمعت المحكمة لجميع الشهادات، بما فيها تقارير الأطباء النفسيين. خلصت المحكمة إلى أن فيرونيك مذنبة بقتل ثلاثة من أطفالها، لكنها أخذت في الاعتبار حالتها النفسية واضطرابها النادر. صدر الحكم عليها بالسجن ثماني سنوات، قضت منها أربع سنوات فقط قبل أن يُفرج عنها بشروط.
أما جون، فقد تمت تبرئته لعدم كفاية الأدلة التي تثبت علمه بجرائم زوجته أو مشاركته فيها. ومع ذلك، ظل اسمه مرتبطًا بالقضية في الإعلام لسنوات طويلة، وظل يعيش تحت ظلال الشك في نظر كثيرين.
الفصل السادس: ردود الأفعال العالمية
أثارت القضية ردود أفعال واسعة على المستوى العالمي. في فرنسا، انقسمت الآراء بين من رأى أن فيرونيك ضحية لاضطراب نفسي نادر، ومن اعتبرها قاتلة بدم بارد لا تستحق أي رحمة. أما في كوريا الجنوبية، فقد ساد الغضب والصدمة، إذ لم يتخيل أحد أن جريمة بهذا الشكل يمكن أن تقع على أرضهم وبأيدي أجانب مقيمين.
وسائل الإعلام العالمية تناولت القضية من زوايا متعددة: بعضهم ركّز على الجانب النفسي النادر المتمثل في إنكار الحمل، بينما ركّز آخرون على الإهمال الأسري، أو على الجوانب الدبلوماسية بين فرنسا وكوريا.
الفصل السابع: التحليل النفسي والاجتماعي
ظاهرة إنكار الحمل التي عانت منها فيرونيك تُعتبر من الحالات الطبية والنفسية شديدة الندرة. ففي هذه الحالة، لا تدرك المرأة أنها حامل، ولا تظهر عليها الأعراض المعتادة ككبر البطن أو تغير الهرمونات بشكل واضح. هذا يجعلها تفاجأ بعملية الولادة دون استعداد جسدي أو نفسي.
لكن في حالة فيرونيك، لم يكن الأمر مجرد إنكار حمل عابر. بل ترافق مع صدمات الطفولة والفقر والإهمال العاطفي، مما ولّد لديها شعورًا بالخوف من الإنجاب وتحمل المسؤولية. وبدلًا من طلب المساعدة، اختارت طريقًا مأساويًا هو التخلص من الأطفال فور ولادتهم.
الأطباء النفسيون أكدوا أن حالتها كانت استثنائية حتى بالمقاييس الطبية، حيث لم تُسجل في التاريخ حالة لامرأة مرّت بإنكار الحمل ثلاث مرات متتالية. وهذا ما جعلها مادة للدراسات والأبحاث لسنوات بعد المحاكمة.
الفصل الثامن: إرث القضية
بعد مرور سنوات على انتهاء المحاكمة، لا تزال قضية الأطفال المجمدين
تُذكر كإحدى أكثر القضايا إثارة للجدل في أوروبا وآسيا. تحولت إلى موضوع للأفلام الوثائقية والبرامج التلفزيونية، وأصبحت مثالًا يُستشهد به في كليات علم النفس والطب الشرعي.
اليوم، يعيش جون بعيدًا عن الأضواء، بينما تحاول فيرونيك أن تعيد بناء حياتها بعد قضاء عقوبتها. لكن وصمة الماضي لا تزال تطارد اسميهما، ولا تزال الأسئلة مفتوحة: كيف يمكن لإنسان أن ينكر وجود أطفاله لدرجة قتلهم؟ وهل يمكن للمجتمع أن يغفر مثل هذه الجرائم مهما كانت الظروف؟
الخاتمة
قضية الأطفال المجمدين ليست مجرد قصة عن جريمة قتل، بل هي مرآة تعكس هشاشة النفس البشرية، والآثار المدمرة للاضطرابات النفسية غير المُعالجة. إنها تذكير مرعب بمدى الحاجة إلى الدعم النفسي والاجتماعي، خاصة للنساء اللواتي يعانين من اضطرابات الحمل والولادة.
ومهما حاولنا فهم الدوافع، تبقى القصة صادمة: أم قتلت فلذات أكبادها في صمت، وزوج ظل بين الشك والبراءة، وعالم تابع تفاصيل المأساة بدهشة ورعب. إنها حكاية لن تُنسى بسهولة، وستظل عالقة في ذاكرة القضاء والإعلام والنفس البشرية لعقود قادمة.
تم إعداد هذا المقال كتحقيق شامل عن قضية فيرونيك كوريل، المعروفة إعلاميًا باسم "قضية الأطفال المجمدين في الفريزر"، استنادًا إلى تقارير إعلامية وتحليلات نفسية ووثائق محاكمة.
تعليقات
إرسال تعليق